الأربعاء ، ٨ رجب ، ١٤٤٦   -   08 يناير 2025

ليلنا

ليلنا

لیلنا

عرفنا الليل سَكَنا كما جعله الله ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ فكان عَشَاؤُنا بعد المغرب نجتمع عليه في بهو بيتنا وهو من ساعات الأنس مع أبي ومجال للحديث بيننا، ولم يكن يقطعنا عنه برنامج تلفزيوني، ولا حديث إذاعي، فحديثه لنا إذاعتنا وتلفزيوننا وصحافتنا، ولا نذهب إلى صلاة العشاء إلا وقد قضينا مآرب يومنا وآخرُها عشاؤُنا وواجباتنا المدرسية، فإذا رجعنا من صلاة العشاء وجدنا فرشنا قد مدت منذ مساء اليوم في سطح بيتنا حتى تبرد، فتتلقانا بحنان ونأوي إليها بشوق، وكانت فرشنا هذه طراحات تمد على الأرض مساء وتطوى صباحا.

وما كان شيء يحجبنا عن قبة السماء وزينتها، ولذا نتابع نمو القمر كل ليلة، حتى اكتماله، ثم نقصه حتى يعود كالعرجون القديم، ونرى نجوم السماء ونعرفها بأسمائها، ونلاحظ اختلاف منازلها، وربما حدقنا فيها حتى كأنما تومض لنا، أو توصوص لنا في نجوى خافته، ونرى الشهب إذا عبرت أفق السماء، ولا تسل عن خيال الطفل ونسج أفكاره في هذا الأفق الرحيب والكون العجيب.

وما كنا نسمر بعد العشاء ولكن كنت أرى أبي وقد أضاء المصباح الكهربائي المتنقل، ونشر كتاب «إحكام الأحكام» للآمدي يسامره ضمن منهج الدراسة في المعهد العالي للقضاء، وأما سمري فكان مع جهاز راديو صغير أنام وهو إلى جانبي وأستغرق في النوم وبرامجه مستمرة، وكان إضافة ثقافية لي من خلال البرامج التي كنت أتابعها في الإذاعة العراقية، وفيها مناقشات الرسائل العلمية والتي كانت مناظرات أكثر منها مناقشات، فالمناقش عالم راسخ والطالب مجتهد متمكن، ومما علق بذهني منها مناقشة رسالة «الثعالبي ناقدا وأديبا» و«المنبر في التاريخ الإسلامي».

وأتذكر أني سمعت لقاء مع شخصية يسارية يسأله المذيع عن طموحاته، فقال: ما كان طموحي يتجاوز السكن في غرفة في سطح مدرسة ثانوية أدرس فيها، وأستطيع من خلالها توعية الطلاب، ورسخت العبارة في ذهني أتذكرها كلما دعيت إلى كلمة أُلقيها أو ندوة أشارك فيها حفزتني هذه الكلمة ألا أرفض هذه الدعوة، وقلت في نفسي: كان طموح قومي يساري أن تتاح له فرصة الحديث إلى طلاب فصل دراسي، وأنا أتردد في إجابة دعوة يجمع لها طلاب مدرسة، قد صار الواجب عينيا فكيف أعتذر.

وما صرت أعتذر حتى تزاحمت المهمات، وصارت الواجبات أكثر من الأوقات.

 ومما أذكره من سمري مع المذياع متابعتي لأحداث أيلول الأسود من الإذاعات التابعة للمنظمات الفلسطينية، وخطابات الرئيس السادات والتي نعرف متى تبتدئ ثم لا نعرف كيف ولا متى تنتهي، ورسائل الأهل في فلسطين لأقاربهم عبر دار الإذاعة الإسرائيلية والتي تختم بالعبارة التي لا تتغير «نحن بخير طمئنونا عنكم».

وكل هذا في وقت يسير فعادة نلقي بأنفسنا على فرشنا وعيوننا نصف مغمضة، ولم نكن نعرف شيئا يسمى الأرق، فالاستيقاظ الباكر والنوم الباكر كان نمطا حياتياًّ لجميع الناس.

وفي هزيع الليل الآخر تصلصل ساعة رنانة تستيقظ إليها جدتي فتغلقها ثم تتوضأ وتصلي قيام الليل وتهجده، وكم استيقظت فرأيتها تصلي في سكون الليل وهجعة الناس، في حال من التأله الخاشع.

وكانت صلاتُها وذكرُها سكينةً وطمأنينةً وبركةً على بيتنا، ولا أحسب أن هناء العيش وطيب الحياة الذي كان يغمرنا إلا ببركة ذكرها وصلاتها ودعائها.

أما السهر الليلي فلم يكن ضمن برامجنا ولا من نمط حياتنا، ولا أذكر أني سهرت ليلة حتى الصباح قبل ليلة زواجي.

کتبه: عبد الوهاب الطريري

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة